الثلاثاء، 2 مارس 2010

شمس النهار



(شمس الكهولة كلاكيت تانى مرة)

اكتب اليكِ للمرة الاولى رغم ان صداقتنا ضربت جذورها بالاميال فى نفسي , لعل حميميتنا لم تكن قديمة , لكن التعارف بيننا كان منذ الأزل ...
مجنون سيقولون عنى عندما يعرفون انكِ من اكتب اليها , واشكوى اليها , وانام ليلي مرتعدا من هذا الظلام المحبط متوشحا به , انتظركِ فى شوق بلغ حدود السماء , تتغنى به الاطيار , والحق اقول انكِ ما اخلفتى موعدنا ساعة , فكل نهار افتح نافذتى لأجد منكِ علامة , فأسرع وشوقى اليكِ يتقاطر من نفسي كامطار الكرم فى قصور غرناطة , فأجدكِ نشرتى بهائك فى نفسي قبل الكون المتشوق لرؤياك ....
شرفتى الصغيرة المحففة بأزهار البنفسج والياسمين تزداد جمالاً بزيارتك , وها انا اجلس منذ صباح يومى مستأنسا بلقائك , تداعبنى خيوط شعرك الذهبية المتناثرة حول عنقى , ودفئ قلبك الذى طهرنى من رطوبة الزمان ....
نعم اعتدنا الجلوس نتودد لبعضنا بحروف الصمت البليغ , لم يعد لى على وجه هذا العالم إلا صحبتك النهارية , فماذا ينتظر كهل مثلي من رجال الحياه , فلم اعد جندى من جند الدنيا ولا من ارباب القوّل , سقط منى الزمن منذ امدا بعيد لا اذكره ... لكن اليوم وقعت عليّ مفجأة ارتعد لها اعضاء الجسد الواهن , ان اليوم هو عيد ميلادى التسعين , تخيلِ انى عشت فى هذه الدنيا تسعة عقود , ضعُف فيها القلب والبصر , والسمع اصبح خيالات ورؤى , لكن ذاكرتى تأبي النسيان , تقف امام طوفان طاغى من الايام والاحداث ببسالة , ها انا يا صديقتى ابلغ ارذل العُمر , الذى دعوت ربي ان يحرمنى منه , لكن نفذ فيّ قضائه ....
سنوات مضت عديدة لا اذكر ملامحها على وجه التفصيل , لكن المجمل محفور فى قلبي قبل العقل , يوما استلمت فى يدى ورقى أصبحت الآن باهتةٌ صفراء , كانت شهادة التوجيه العام , ذهبت بها إلى أمى والسعادة اوزعها على كل من وقعت عيني عليه ....
انا يا امى اصبحت رجل , افندى حاصل على البكالوريا , فى اعلى السماء وضعتنى امى بعد ان اقنعتها بضرورة اكمال دراستى بالجامعة , قلة من اهل الحي والعائلة من التحق بالجامعة , الكل يطمح بعيون مترقبة إلى البكالوريا , اما انا فكان حلمى بلا نهاية , كنت استولد من كل نهاية هدف , جوقة من أمال اُهدي بها عقلى ونفسي , فى الجامعة درست اداب الانجليز , برعت تفوقت , كنت نابغة الجامعة , ومحط اعين الاعجاب , كانت تلاحقنى عيون زميلاتى لتضيق علي حياتى الجامعية , عدم الاكتراث بهن كان ديدنى , فأنا وسط مقررات ومراجع الادب وجدت الحياه , يترأى لى هذا اليوم وكأنه حدث قبل ان اكتب اليكِ الآن مباشرة , عندما استدعانى عميد الكلية وبشرنى بأنى الأول على الدفعة , ربت على كتفى واوصانى بالعمل الاكاديمي ....
لا أصدق ان هذا كان من عقود خلت , انى اذكر اول يوم لى فى التدريس الجامعى وكأنى مازلت ارتدى تلك السترة البيضاء , التى ظهرت بها فى اول يوم , وانا احاول التغلب على نظرات الطلبة , فانا فى مثل اعمارهم تقريبا , لكنى انا الاستاذ الآن , مرت شهور فقط لأجد رسالة عليها اسمى , تأتى لتخبرنى انى مرشح لبعثة فى لندن لأكمال دراساتى فى بلد الأدب المدروس منى طيلة سنوات , بعد موت الأم ايتها الصديقة الوفية يكون الانسان حطام , لم افرح بتلك الرسالة بالقدر المأمول , فبعد وفاتها لفترة اعتادت عيني السواد المظلم , وافقت على البعثة لأكمل طريق بدأته , لكن تلك المرة لم احمل الإثارة والشوق فى دفاترى , فكان زاد سفرى هو استئناف مشوارى فقط ....
وهناك فى بلد الثلج الأبيض جمدت المشاعر كثيرا , أصبحت حياتى دورة ديناميكية من الافعال وردها , كأنى قطار مرسوم له خط السير , لا يتجاوزه ابدا , اذهب الى الجامعة صباحاً , واقرأ ليلاً , فى تلك الايام الباردة ارتسم فى قلبي صورة تلك الفتاه الشقراء , فسبحان الخالق , كان جمالها من ايات الله المعبود , انظر اليها خلسة بين فصول النهار , فاردد اسمه البديع ....
وكأن بوجودها يا صديقتى بدأتِ فى الأشراق من جديد , فانصهرت جميع الثلوج , وازدهرت الورود على الاشجار , وتوشح الكون بضياء سنها البسام , وكأن العالم كله تلاشت صوره فى عقلى ونفسي , واحتل جمالها كل ما في , لم افطن الى نفسي فى يوما من ايام احتلالها الوردى لقلبي , إلا لأجد نفسي اتناسي كل ما درسته بلغتها ولغة اجدادها , فأكتب فيها اجمل الاشعار بلسان قومى, فضحتنى عيناى وحركاتى المتوجهة نحو مغناطيسيتها الجاذبة لكيانى , صارحتها بما اصابنى جراء نظرة عيونها نحوى او نحو المدى , رأيت ضحكتها المرتبكة بخجل الأنثى , فتشابك ايدينا , وتحاضنت عيوننا ,وتعانقت قلوبنا , وتوحدت ارواحنا ....
صحبتنى إلى بلادى بعد انتهاء البعثة , و فيها رأيتها تعطينى الذكر والانثى بفضل من الخالق سبحانه , وفى جامعتى كنت اجتاح السلم الوظيفى وكأنه سلم كهربائى , فأصبح رئيس لقسم اللغة الانجليزية بكلية الاداب , واحاضر فى جامعات اخرى محلية وعربية وعالمية , ارى امامى ابنائى يُزهرون سنوات العمر , وتنضج اوراقهم وعقولهم , وكأن الحياه طائرة نفاثة , أجدهم فى طولى ويتكلمون ويتناقشون معى , تنظر لى امهم مبتسمة , وجمالها لم ينضب ابدا , كانت اجمل سنوات العمر يا اقرب الاصدقاء , كنت فيها الزوج العاشق والأب الحنون والأستاذ الناجح , فى يوم من ايام هذا العمر المنقضى , جلست امام النهر انا وهى , نتذكر ليالينا الاولى على التيمز , ساعتها اسرت لى ان ولدنا سيلتحق بكلية الهندسة , يومها شعرت بأن شعري شاب , الم اكن اعرف انه التحاقه بالجامعة قد آن , لكن معايشة اللحظة غير انتظارها ....
ملعون هذا المرض الخبيث الذى يحصد ارواح الاحباء , أمقت لحظة , عندما ترى اجمل الازهار تذبل امام اعينك , والعجز والصمت القاتل هو كل ما تملك , اُصيبت زوجتى ورفيقتى بأبشع الامراض فتساقطت خصلات الذهب من رأسها , وانطفأ نور الحياه من وجهها حتى فقدتها ,,, للمرة الثانية تُظلم الحياه امامى , اُبصر فأجدنى وحيدا , ابشع احساس عندما تشعر انك مبتور ....
تعاظم دور ابنتى فى حياتى بعد وفاه امها , وكأنها ادركت بحسها الانثوى او الامومى انى يتيم ارمل مكلوم , شجعتنى على الانتباه لعملى , هيأت كل الاجواء لأستئنف دراساتى الدائمة فى غرفتى بكل هدؤ , سهرت على راحتى , كثيرا ما احجبت عنى اخيها حين كان يحاول الدخول علي فى صومعتى , ليطلب منى توافه الامور , لكنه كبر وصار مثلي فى شبابي القديم الطامح , فها هو يتخرج باعلى التقديرات , ويطلب منى ان اساعده فى بعثة الى المانيا ليكمل دراسته ....
كانت لحظة قاسية وانا اودعه فى المطار وهو مسافر إلى بلاد الألمان , احتضنته بكل قوتى , وانا اشعر انى اودع فيه امه وامى , وانا اتحسس ملامح وجهه واصبر نفسي بأن اللقاء قريب , اتسع البيت علي انا وابنتى , أصبحت هى كل الحياه الدابة فى نفسي , بها تشجعت على اقامة مقابلات اسبوعية فى بيتنا الواسع بينى وبين اساتذة اخرين وتلاميذى نتناقش ونمزح ....
فُوجئت , بُهت , صُدمت , وكأن كل سكان هذا الكوكب دقوا على رأسي بمطارقهم عندما ظهر شاب فى حياه صغيرتى , انها صغيرتى لكنها فتاه , شابة بالغة لسن الرشد , لم اتخيل يوما فراقها , كرهت هذا الشاب الذى جلس امامى بمنتهى الادب البارد ليطلبها للزواج وليخبرنى انه يعيش فى احدى البلاد التى تسبح على انهار النفط , رأيت السعادة والبهجة يقفزان من عينيها , لجئت إلى السكوت , لا لن اكون انانى لكى احرمها من الحياه , طالبا منها ان تهبنى ما حرمنى منه القدر , وافقت على الزواج , ورقصت فى فرحها بكل قوتى , وكأنه احدى حفلات الزار التى يترنح فيها الضحية على الطبل والزمر والصراخ ليقع فاقد الوعي والحس , وكأنها احدى حالات السكر للنسيان ....
عشت بعدها يا صديقتى منغمسا فى العمل الاكاديمي والمحاضرات الجامعية , والندوات العلمية , لم اجعل يومى راحة ابدا , تعمدت على ان احوله إلى ضوضاء رهيبة , تهرُب منها كل الافكار والمشاعر , لكن كان قرار احالتى إلى المعاش وكأنه شهادة وفاه جديدة لأعز الناس , اعتزلت الناس بعده لفترة , كدت ان استسلم للشيخوخة مبكرا , لكنى قاومتها بالنادى , فكان صباحى كله فى النادى , اجالس رجال فى مثل عمرى , نتكلم فى السياسة ونشكى الى بعض حال الدنيا , نلعب الشطرنج , ولسنوات كان النادى حياه جديدة لى , وكأنى عدت مراهق لا اتحمل هموم وظيفة او مسؤليتها , بل كانت كل حياتى هى مجموعة المسنين اليائسين , طالت فترة النادى , ورأيت الاصدقاء تهب عليهم رياح الخريف فتذبلهم وتطيح بيهم الواحد تلو الآخر حتى بقيت انا وحدى ....
لكن للزمن تجاعيد وشيب لا يستطيع مخلوق ان ينكرها او يجحدها , فنحن فى ايدي الزمان ليس مثلك ايتها الصديقة الخالدة , فحين يأمر العُمر لابد ان نستجيب , فاستجبت بكل رضا للوهن والضعف , اعتدت على ان اصادق اعراض الزمان , احباطى لن يرجع ما فات , فكان محتوم علي ان امشي مع شيخوختى فى طريق الحياه او اللاحياه , فحياه جديدة عايشتها بعد النادى , وهى حياه المنزل الخاوى من الاشخاص , اقرأ نهاراً حين يساعد الضوء عيناى وفى الليل افتح تلفازى لأشاهد الاخبار والمسلسلات ...
كان الفراق هو المقدور علينا دوما , نودع الاحباب بحسرة القلب وعبرات الاعين , لكن بعد ان نعتاد على الوداع نعلم انه سُنة الحياه, لن انكر حزنى حين سلبت منى الحياه نظرى , فأفقدتى القرأة ومشاهدة التلفاز ...
كُتب علي مفارقة الاحباب , فها انا اودع نظرى مصحوبا بالقرأة وصديقى التلفاز , فلجئت إلى المذياع , اجلس بجواره منصتا إلى ترتيل القرآن , واداعب أذنى حينا بموسيقى زمنى البعيد , هذا المذياع كل ما تبقى لى من اصدقاء , استمع اليه فى كل حنان , تدمع عيناى احيانا وانا اسمع حلقاته الدرامية , اعيش فى رحاب القرآن معه , معه عرفت الاصوات , وميزت بين القراء وفنونهم ....
صعيبة جدا هذه الايام التى رحل عنى السمع هو الآخر فودعت فى حسرات اخر صديق , إلا ان ظهرتِ انتِ يا انبل الأصدقاء , واوفى المخلوقات , حين ظهرتِ لى واغمرتينى بموجات الحب النابعة من قلبك الدافئ , داعبتنى اشعتك الطاهرة ورسمت لى الخيالات التى بها تقلبت فى حيوات مفقودة , ها انتى تقفى على رأسى تارة , وترسلى بعضا منك على انحاء متفرقة من الجسد والبيت , تأبي ان تذهبي إلا ان تأخذى معك يوميا عطن حياتى الراكدة , لن اوفيكِ حقك لا برسالتى هذه ولا بالقليل المتبقى من عُمرى ....
ايتها الشمس الطاهرة الوفية , يا كل من تبقى لى فى هذا العالم , يا اقرب الخلان وانفس الاشياء , امانة عليكِ لا تتركينى كباقى الاصدقاء , فأنا لن ابتعد عنكِ نهارا , ومعك سأنتظر الزائر المتأخر لسنوات .....


كـريم الـراوى
مارس 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق