الجمعة، 19 فبراير 2010

على المقهى




فى تلك المقاهى المتزاحمة بوسط المدينة كنت اجلس ارشف الزنجبيل والشاي , اعلن عن ارائى الجريئة فى السياسة وافند ادباء واصدر احكام على مجتمع بأسره ,, اجالس من يستقبلون الحياه واناقشهم فى الفن والموسيقى والسينما المحلية والعالمية .. وقتها شعرت وكأنى ملك متوج على عرش من ذهب اصدر احكام على اكبر رأس واسحق من لا يوافق هواى ...مثلى كانوا اصحابى ومجالسيني , شباب رأوا فى انفسهم طاقات وآمنوا ان التغيير واجبهم .. وانهم اقدر الناس عليه ... شباب اختبئوا تحت دخان سجائرهم وأضفوا سحابة كثيفة الغيام من شيشهم ... لعلنا كنا نختبئ من ضعفنا وسط كل هذا الدخان وندارى جلهنا المرفوض منا....يجلس حول منضدتنا اكثر من فتاه بعضهن يشاركوننا فى التدخين واللعن والسباب ...معتدقين اننا بهذا وصلنا الى قمة الحرية والانفتاح الفكرى .... نعم أذكر هذا الموقف عندما كنت اجلس الى صديقى الاسمر وكنا نتناقش عن الاديب خيرى شلبي وعن رواياته وابطالها المهمشين فى مجتمعنا , يومها جرّنا الموضوع و تطرقنا الى الشعوب المنسية فى وطننا الواسع المتعدد اللهجات والثقافات .. قال هو بصوت عالٍ انه يجب ان نفهم اننا لسنا شعب العاصمة فقط وان اهل المدينة الكبري هم على كل حال اقلية اذا قورنوا باقليات وطوائف عدة ... استمعت الى كلماته بشئ من الانتباه ثم اطبقت شفتاى على سيجارتى المشتعلة ( ادعوا الله لى ان يثبتنى بعد ان اقلعت عنها ) قلت له ونظرى يجوب بين كل الحاضرين ... اتعتقد انهم ينظرون لنا على اننا غزاه .... فقالت احداهن مسرعة : انهم يعتقدوا انهم مواطنون درجة ثانية واننا اهل الصدارة ... قال صديق : لا يجب ان يفكروا على تلك الشكالة ان كل ما فى الامر اننا متمدينين ونفهم ما قد يعجزا عن فهمه .... دوى صوت صديقنا الاسمر الاول قائلا .. اننا لا نفهم إلا لغة الغرور وما اهل العاصمة والمدن إلا شرذمات مهاجرين من كل بقاع الوطن .... قال صديق : اننا من يقود عجلة القيادة ويجب عليهم ان يثقوا بنا حتى نصل بالوطن إلى بر آمن .... قلت : انت تسطح الموضوع وتسفه عقول الملايين بكلامك .... عند هذا الحد سمعنا ضحكة عالية من منضدة مقاربة لنا من رجل شديد السمرة وجّه كل بصره وجسده الينا ... رجل توارى السواد فى رأسة حتى غلبه الشيب , تجاعيد وجهه تشهد له بأنه عاش طويلا .
قلت له بفظاظة بعد ان قاطعتنا ضحكته العالية : عذرا هل انت مشترك معنا ؟؟؟
رد بمنتهى البساطة وأثر الابتسامة مازال على وجهه : ان كنت تقصد مشترك معكم فى وطنكم الواسع فنعم , وانت كنت تقصد فى الحديث فنعم ايضا ولكنى اسمع فقط , وانت كنت تقصد مشترك معكم فى تلك الاراء فتلك ردى عليها بلا .
افحمنى رده ورأيت فيه من الحكمة كثيرا , طلبت منه ان يشاركنا الحوار ان احب , رحب بفكرتى وآتى بكرسيه وجلس حول منضدتنا التى كانت مليئة بعلب السجائر وبعض الكتب فى السياسة والادب والشعر وبالطبع لم تخلوا المنضدة من بعض الكتب الاجنبية عن تراجم عظماء الادب والفلسفة , رأيت الضجر والغضب فى عيون كثير من اصحابي تمرقه مرة وانا مرة ففهمت ما يغضبهم , ان هذا الجيل يكره نوع هذا الرجل المسن ويرى اننا قادرون على حل مشاكلنا دون تدخل او نصائح من الشيوخ بل يروا اكثر من ذلك , وان كل الذى آلت اليه امتنا كان بسبب طيش وتهور جيل هذا الرجل , وبالطبع كنت اشارك الرجل فى الغضب الموجه لانى من دعاه الى مجلسنا بعد ان كنا نتناقش ونختلف ونلعن , ثم نسكت فجأة وكل منا معتقد انه بذلك بات بطلا وكأنه شارك جيل الاباء فى العبور .
قال صديقى الاسمر الغاضب دوما : وانت ايها الرجل ماذا ترى فى كلامنا , رد الرجل بهدؤه المعهود : فى مسئلة مناقشتكم للوطن فانا ارى انكم تبالغون وانكم تبحثون عن ما يجعلكم تختلفون حتى يشعر كل منكم بالتميز ,ان الوطن الذى تتكلمون عنه لطالما عاش بكل الطوائف المنسجمة قرون فماذا حل الآن . قال صديقنا الغاضب : ما حدث انه يجب ان يُرفع الظلم الواقع على طوائف بين شعبنا .
قاطعه الرجل واشار بيديه رافعها امام وجهه : ليس هناك طوائف بين شعبنا , انما كلنا شعب واحد فى وطن واحد واسع كبير يشمل ثقافات عدة , الم تفكر يوما ان تلك التعددية قد تكون ميزة فى اثراء حياتنا الثقافية والابداعية , الم تلاحظ على بشرتى ولونها انى اختلف عنكم جميعا , فأنا يا بنى من تلك ما تسميهم انت طوائف ,ثم وجه نظره الى احدنا قائلا : ومن تظنهم انت غير قادرين على مواكبة العصر وحكم انفسهم ووطنهم .
نظر بعضنا الى بعض بعد كلمات الرجل وكأننا شعرنا بضألة تفكيرنا لكن احداهن اسرت الى من يجاورها بالانجليزية قائلة : لم نكن ننتظر من هذا الخرّف ان يأتى ليعلمنا . فقلت لها مسرعا بنفس اللغة التى تحدثت بها وانا احاول ان اضبط تعبيرات وجهى حتى لا يلاحظها الرجل : اسكتِ واسمعِ ما يقول .
فقال الرجل موجه حديثه لى اتركها تقول ما تشاء يا بنى فأنا اعلم جذوة ثورة الشباب .
بهت جميعنا ان لم يتوقع احد منا ان يكون هذا الرجيل البسيط الهيئة متقن لاحد اللغات الاجنبية .
فال الرجل : اتستغربون انى اتحدث الانجليزية ؟؟ لا تستعجبوا فانا اتحدثها والفرنسية والروسية كما اتقن اللغة المحلية لاهل اقصى الجنوب حيث انى واحد منهم , هذا طبعا بخلاف لغتى الاولى وهى العربية .
استئنف الحديث قائلا , عندما كنا فى اعماركم كنا اكثر حيوية وشباباً وما اراكم الا عاجزين لاجئين الى المقاهى , فعندما كنت فى عمركم كنت اخرج فى مظاهرات مطالبا بالجلاء انا وزملائى , فكنا نهتف ضد الملك وضد رئيس الحكومة مطالبين بتعديلات الدستور , منددين بوحشية الفرنساو فى الجزائر , كنا ننادى باستقلال تونس وسوريا ووحدة حوض النيل , نلعن الصهيونية وبيع فلسطين , كنت ارى انا وجيلى ان مشاكل العالم كله يجب ان تمحى وان لابد ان يأتى العصر الذى يحيا فيه الانسان بكرامته , كنا نرى اننا من سيحقق العدل الذى اختفى عن تلك الارض لعقود وقرون .
كلمات هذا الرجل وان كانت تحمل هجوم علينا وعلى تفكيرنا لكنها سحرتنا فكلنا جالس على كرسيه كل نظره الى عين هذا الشيخ والى حركة شفتيه وهو يحدثنا , كنت اشعر اننى عدت طفلا اجلس الى جدى وهو يحكى لى روايات السيرة الهلالية والف ليلة وليلة , شعرت بطفولة عقلى امام هذا الرجل .
سكت برهة بعد ان لم يجد من يقاطعه فينا فنظر في عيوننا فرأى شوق المعرفة فأكمل حديثه قائلا :
قد نكون كنا اكثر تخلفا منكم ووسائل المعرفة فى عصرنا كانت على اضيق الحدود ناهيكم عن الرقابة القاتلة لاى ابداع التى كنا نلاقيها من الاحتلال وجنده , لكننا كنا على قدر المسؤلية فكان عند اى استكانة منا نسمع من يقول لنا سوف تلاحقكم لعنات ابنائكم يوما , انكم ورثتم الجهاد كابر عن كابر , نعم جهاد الاباء والاجداء لم يحرر الارض لكنه كان مصدر ازعاج دوما لهم , نعم كانوا يكافئون بطلقات ذوات العيون الزرقاء تحاضن صدورهم , لكن ذكراهم عاشت بيننا , وبموتهم امدونا بقوة خفية تحركنا على الرفض فلم تكن حياتهم ومماتهم هباء .
اوصل كلامه قائلا ...فكنا ننشر فضائح المحتل وان اختلفت جنسيته فى كل بلدان العالم , ونفضح نزوات الاعيان ومن باعوا وطنهم ونحصد ارواحهم الواحد تلو الأخر ... كنا دائما مصدر ازعاج وقلق لأى ظالم .. اوتصدقون انه مع كل هذا لم نتهاون فى تعليمنا يوما ... كان التعليم بالنسبة الينا ساحة جهاد جديدة ... فبالتعليم سنحرر عقول شعبنا من الخرافات ونزرع ارضنا ونُصنع منتجاتنا الخام , ونحول كل فرد الى عامل او فلاح او مثقف ...
تنهد الرجل ونظر الى اعلى ثم عاود النظر الى الشارع وبين المارة وانتبه الى اغنية اجنبية فى الاذاعة ثم اردف قائلا , لم نكره الفنون يوما , لكننا كنا ننتمى بكل ما فينا الى هذا الوطن حتى فى فنوننا ولهونا , لقد ظلت جيوش الاجانب وسطنا ماظلت لكنها لم تستطع ان تغير ثقافتنا ولغتنا , كنا نقاومهم بالتمسك بتراثنا , وان كنت اتكلم عدة لغات , لكن تخيلوا اننى لا اتذكر انى لجئت الى احداهم مرة اثناء تخاطبي مع احد فى وطنى إلا إن كان اجنبيا , عندما تعلمت تلك اللغات كنت اعرف انها للثقافة والعلم وللقرأة فى ادب الغير وعلمه ,, وان تحدثتها فهو للتواصل مع من يجهلون لسانى . ثم نظر الى الارض تحت قدميه وقد عبس وجهه على غير عادته وقال .. انا لا افهم لماذا تستخدمون فى كلامك كل تلك المصطلحات الاجنبية دائما , الآن فقط وانا اسمع جيلكم وهو يحشوا حديثه بتلك الكلمات اشعر ان جهادى ضد الاحتلال كان بلا فائدة , أشعر وكأن كل من استشهد حولى من اصدقاء وجيران واقارب برصاص العدو قد مات وانتهت ذكراه .
رفع رأسه قليلا وعاوده شئ من الابتسام لكن فى الواقع لم تكن هذه المرة كالابتسامة الاولى , بل كانت واحدة ممن تملك قدرا من التهكم والسخرية ثم ذيّل ابتسامته تلك بسؤال : أهل إن كان الاحتلال فى زمنكم هذا بكل مميزاته وامراضه كان سيكون موقفكم منه كما كنا نفعل ؟؟, ام هل إن كان فى زمننا نحن نملك شيئا مما تملكونه بين ايديكم كان سيختلف جهادنا ام انه كان سينعدم ؟؟؟
جاء الصوت هذه المرة من مقعد اخر كان لصاحبنا الغاضب فقال بصوت منخفض بعد ان ادرك صغر قامته امام هذا الرجل الذى يحمل بين جنباته تاريخ وعلم وجهاد فقال : يا استاذنا نحن جيل بلا ايدلوجية , فانعدم فى زماننا الاحتلال والحرب والسلام ,,, فقطاعه الرجل بضحكة عالية قد كنا بدأنا فى الاعتياد عليها ثم حاول ان يكتم ضحكاته فقال : ماذا تقول يا ولدى انعدم فى زمنكم الحرب والسلام والاحتلال - فأطلق ضحكة قصيرة ثم قال - بل انا ارى ان هذا الزمان هو زمن كل الايدولجيات وعصر كل المصائب , انكم يا بنى فى حرب شرسة تضع تحت اسم السلام وفى احتلال اعمّى ابصاركم حتى انكم لا ترون جنوده ...
قلت له مستلطفا وماذا ترى انت يا ابانا ؟
رد علي فى حنو : الشباب دائما لا يقبلون النصائح , فلن انصحكم او اوجهكم الى شئ بل كل ما اريده منكم هو التحرك الى الامام , ان تدركوا انكم ورثة وطن عظيم وتوشكوا ان تكونوا كبرائه . انتم من يجب ان يعرف المشكلة حقا حتى يستطيع ان يحلها , تخلوا عن احلام التمدين المحرف الذى وصل اليكم , ان كل التقدم هو العمل على الاصلاح وليس العمل على الظهور كمتحضرين ,, لا يهم ماذا تلبس وبأى لغة تتحدث حتى تواكب عصر النهضة , فانا طفت بلدان العالم فلم ارى شعوب جاهدت محتليها كما فعلنا , لكنى ايضا لم اجد شعوب عاشقين لمحتليها كشعوبنا . انتم من يجب ان يجد مشاكله ويعرفها , وهى على العموم واضحة كالشمس فى كبد السماء , لكنى ارى انكم تعودتم عليها فما اصبحت مشكلة لكم , فذهبتم تبحثون عن توافه الامور لتعظموا من امرها حتى تجدوا ما تتناقشوا فيه .
قال احدنا له : لكنكم خلفتم لنا من المشاكل ما يكفى حلها لقرون .
فقال الرجل وهو يقوم عن مقعده ومناديا للنادل ان يأتيه بالحساب : يا ولدى نحن لم نخلق تلك المشاكل وان كنا خلفناها , فنحن قد رفعنا عنكم ما هو اعتى منها , فيجب عليكم انتم ايضا ان تجاهدوا فى حل ما اورثناكم حتى تتخلصوا من بعضه وتتركوا ما تبقى منه لاولادكم واحفادكم , فالمشاكل لن تحل كلها لكن حاولوا معها , ثم رفع يده مودعا لنا وذهب ماشيا , لكنه وقف بعد ان ابتعد عنا خطوات ثم قال بصوت عال : لكن امانة يا ابناء هذا الوطن ان لا تتركوا كل المشاكل للاجيال القادمة . .


كريـم الـراوى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق